كنا نظن أن الفن المصرى، والإبداع الدرامى، سيلفظ أنفاسه الأخيرة فى ظل هذا المناخ الكاره للفن والطارد للإبداع، لكن المفاجأة أنه فى رمضان خرجت عدة أعمال فنية تستحق الإشادة وتبعث على الإعجاب. هى بالفعل قليلة وسط هذا الزحام الرمضانى الشديد ولكنها كافية للتأكيد على أن قلب مصر الفنان المبدع لم ولن يتوقف عن الخفقان مهما ظهر متشددون ومكفراتية وقراصنة وسماسرة يرهبون ويروعون أى مبدع بمقصلة الفاشية الدينية.

على رأس هذه الإبداعات الرمضانية التى أعادت لى التفاؤل بأن فن مصر ما زال بخير مسلسل «الخواجة عبدالقادر». الفكرة مبتكرة، هى ليست حكاية تقليدية مباشرة ساذجة عن انتقال شخص من دين إلى دين، ولكنها عن انتقال شخص من فضاء إلحاد لا ينتمى إلى أى دين ولا يعترف بأى عقيدة إلى أرض استقرار صوفية شفافة تتعانق مع الإنسان على أى أرض وفى أى ديانة، فالخواجة «هربرت» لم يتحول إلى عبدالقادر عبر روتين مؤسسة دينية وتدشين شيخ تقليدى ولكنه تحول عبر طريقة صوفية وبسلاسة وبدون صراخ قبلى أو شماتة عنصرية، تحول عبر نبضات الموسيقى وسحر الشعر خاصة شعر الحلاج.

يحيى الفخرانى عبر هذا الجسر السرمدى بكل سلاسة وبدون صراخ أو حزق، كان بارعاً واستخدم النظرة والطلة والصوت الخفيض الذى يقترب إلى الهمس، لم يكن فى حاجة إلى استعراض عضلات وإنهاك حناجر لأننا نطل من خلال نافذة عينيه إلى عالم جديد لم تقدمه لنا الدراما من قبل.

المؤلف عبدالرحيم كمال نسج بمهارة هذه «السيرما» الدرامية، ولم يقع فى فخ الفلاش باك التقليدى المدرسى بل خلق خطاً درامياً موازياً غنياً وبنفس غنى وثراء الماضى فى صراعات القرية وما يحدث داخل عائلة المهندس الذى أدى دوره محمود الجندى بعبقرية.

المخرج شادى الفخرانى انتظم إيقاعه على مقاس إيقاع العمل فأخرجه بإحساس صوفى أيضاً، وكان كل كادر بمثابة لوحة تشكيلية بألوانها وظلالها وخطوطها، اختياره لأماكن التصوير وزواياه اختيار غاية فى التوفيق، ساعدته الإضاءة التى لم تكن مجرد إنارة والديكور الذى غاص فى تفاصيل الزمان والمكان بمنتهى الدقة والجمال.

موسيقى عمر خيرت تحملك لعوالم مستعصية على التجسيد وكأنك فى حلم، لا تملك إلا أن تهتز وكأنك فى حضرة ذكر أوركسترالية، تحس أنك تسبح فى النور وتقتنص الأسرار وتصطاد المستحيل.

الممثلون السودانيون الذين لم يعرفهم الجمهور المصرى من قبل، رغم أنهم أشقاء الوادى، كل منهم غول تمثيل بلغة أهل الدراما، خاصة من أدى دور الشيخ الصوفى عبدالقادر، ومن مثل دور فضل الله عامل المحجر، كانا بالفعل مفاجأة على مستوى بساطة الأداء وعمق الفهم للدور.

مسلسل «الخواجة عبدالقادر» فى حلقاته الأولى مشروع درامى مبشر من خلال كتيبة فن متألقة تناضل فى زمن طارد للإبداع خانق للفن مغتال لبهجة الحياة.